مقتطفات من خطبة يوم الجمعة في الحرم المكي
٢١ رمضان ١٤٤٣
الخطيب: الشيخ د. فيصل غزاوي
الخطبة الأولى:
* أيها الناس إن من المعلوم لدى كل مسلم أن الله سبحانه وتعالى هو المتفضل على خلقه كافة بما لا كفؤ له من الفضل ولا حد لمنتهاه، فكم لله من أفضال على البريات، وكم أسبغ على العباد من عظيم النعم وجزيل الهبات، ورأس ذلك الفضل وأعظمه هو التوحيد وهو الإقرار بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له واخلاص الدين والعبادة له، كما قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ وَٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَاۤءِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَۚ مَا كَانَ لَنَاۤ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَیۡءࣲۚ ذَ ٰلِكَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ عَلَیۡنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَشۡكُرُونَ ﴾[سُورَةُ يُوسُفَ: ٣٨].
* ومن فضل الله وكرمه بعثة الرسل عليهم السلام، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي امتن الله على الأمة ببعثته فقال عز من قائل: ﴿هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ (٢) وَءَاخَرِینَ مِنۡهُمۡ لَمَّا یَلۡحَقُوا۟ بِهِمۡۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ (٣) ذَ ٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ (٤) ﴾[سُورَةُ الجُمُعَةِ: ٢-٤].
* ومن فضل الله على هذه الأمة المحمدية الاصطفاء وايراث الكتاب العزيز، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَیۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَیۡرَ ٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِیرُ ﴾[سُورَةُ فَاطِرٍ: ٣٢].
* ومن مظاهر فضل الله على المؤمنين أن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وبغض إليهم الكفر والكبائر والصغائر، قال تعالى: ﴿وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ فِیكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ یُطِیعُكُمۡ فِی كَثِیرࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلرَّ ٰشِدُونَ (٧) فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعۡمَةࣰۚ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ (٨) ﴾[سُورَةُ الحُجُرَاتِ: ٧-٨].
* ومن فضله عليهم توبته عليهم، وتجاوزه عن خطاياهم، وتوفيقهم لتزكية أنفسهم، قال تعالى: ﴿ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ أَبَدࣰا وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یُزَكِّی مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ﴾ [سُورَةُ النُّورِ: ٢١].
* ومن فضله عليهم توفيقهم وتأديبهم وتعليمهم ما لم يكونوا يعلمون، وإرشادهم إلى أنواع المصالح، وتحذيرهم من حبائل الشيطان، والعصمة من متابعته، قال تعالى: ﴿وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنَ إِلَّا قَلِیلࣰا ﴾[سُورَةُ النِّسَاءِ: ٨٣].
* ومن فضل الله ومنته ما ينعم به عليهم من الفتح والغنيمة، ومن النصر والظفر والتمكين، وكل ذلك ينسب إلى المنعم المتفضل سبحانه، كما في قوله سبحانه: ﴿وَلَىِٕنۡ أَصَـٰبَكُمۡ فَضۡلࣱ مِّنَ ٱللَّهِ﴾ [سُورَةُ النِّسَاءِ: ٧٣].
* ومن فضله عليهم أن يغنيهم من الفقر و الفاقة، وضيق العيش، قال تعالى: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَیۡلَةࣰ فَسَوۡفَ یُغۡنِیكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۤ إِن شَاۤءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ ﴾[سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٢٨].
* ومن فضل الله على العباد أن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه ويحققوا راحتهم، والنهار مضيئاً ليصرفوا فيه أمور حياتهم، قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِتَسۡكُنُوا۟ فِیهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَشۡكُرُونَ﴾ [سُورَةُ غَافِرٍ: ٦١].
* ومن فضل الله على الناس تركه معاجلتهم بالعقوبة، على معصيتهم إياه وكفرهم به، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَشۡكُرُونَ﴾[سُورَةُ النَّمۡلِ: ٧٣].
* أيها الناس إن الله سبحانه يعطي أهل الإحسان والبر أجزل ثوابه في الآخرة، قال تعالى:﴿وَیُؤۡتِ كُلَّ ذِی فَضۡلࣲ فَضۡلَهُۥۖ ﴾ [سُورَةُ هُودٍ: ٣]، أي يؤت كل صاحب عمل من الأعمال الصالحة جزاء عمله.
* ففضل الله ورحمته هو الهداية لدينه وشرعه، وأخص ذلك هو القرآن المجيد والإيمان.
* أيها المسلمون ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضل الله عليهم وإحسانه إليهم، قال الله تعالى:﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةࣲ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ﴾[سُورَةُ النَّحۡلِ: ٥٣]، كما أن الفضل لا يُسأل إلا منه سبحانه: ﴿ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِیَدِ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ﴾ [سُورَةُ الحَدِيدِ: ٢٩].
* وقد كان ديدن النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله من فضله وأرشدنا أن يقول أحدنا إذا خرج من المسجد: اللهم إني أسألك من فضلك.
* وقد أفضل الله على نبيه وأكرمه أيما إكرام، قال تعالى: ﴿وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمࣰا ﴾[سُورَةُ النِّسَاءِ: ١١٣]، اصطفاه برساله وأنزل عليه كتابه العزيز وأبان له الحق وأيده بنصره وعصمه من الزيغ والضلال وغفر ذنبه وجعله سيد ولد آدم وأعطاه المقام المحمود غير ذلك من نعمه عليه التي لاتحصى.
الخطبة الثانية:
* معاشر المسلمين اقتضت حكمة الله أن تكون أعمار الأمة المحمدية قصيرة، قال صلى الله عليه وسلم: (أعمارُ أمتي ما بينَ الستِّينَ إلى السبعينَ وأقلُّهم من يجوزُ ذلِكَ) أخرجه الترمذي وابن ماجه، وبرغم من قصر أعمارهم إلا أن من فضل الله عليهم ورحمته بهم أن عوضهم بليالي وأزمنة وأمكنة ومناسبات تكثر بها أعمالهم وتتضاعف فيها أجورهم وحسناتهم، فيجركون في أيام قلائل ما يدركه السابقون في أعمار طويلة.
* عباد الله قد فاحت نسائم العشر المباركات، حاملة الخير العميم والفضل العظيم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، وذلك أنه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر، وكان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجدّ وشدّ مئزره، فعلينا أن نتعرض فيها لنفحات رحمة الله وكريم فضله، ونسأله مغفرته وعظيم فضله، ونكثر فيها من الطاعات ونتقرب بأنواع القربات، ونبتعد فيها عن إضاعة الأوقات وعمل السيئات، فقد يحول بيننا وبين إدراكها مرة أخرى هادم اللذات.
* عباد الله لو لم يكن لهذه العشر المنيفة من الفضل والمكانة إلا أن فيها ليلة القدر الشريفة لكفى، قال تعالى: ﴿ لَیۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَیۡرࣱ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرࣲ﴾ [سُورَةُ القَدۡرِ: ٣]، فالعباجة فيها خير من ألف شهر، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) أخرجه البخاري ومسلم.
* اعقدوا العزم واشحذوا الهمم، فمن حاز شرف هذه الليلة فقد فاز وغَنِم، ومن خسرها خاب وحُرِم، واغتنموا الفرصة واحذروا التفريط والغفلة، فقد تصرّم شهر رمضان وانقضى منه الثلثان، فيا باغي الخير أقبل، ويا راجي العفو هلم، ويا طالب الجنة أقدم.