قلب ينبض بالإيمان، قلب صالح..درب يصلح

You are reading

أسرار سورة الفاتحة

المحتويات:

أسرار سورة الفاتحة

مختصر كتاب: “تكرار الفاتحة القوة الكامنة”

مقدمة

?

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فيها بأُمِّ القُرْآنِ فَهي خِداجٌ ثَلاثًا غَيْرُ تَمامٍ. فقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّا نَكُونُ وراءَ الإمامِ؟ فقالَ: اقْرَأْ بها في نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ}، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، فإذا قالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ.“رواه مسلم”

?

” اشتمال الفاتحة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم”

ابن القيم – مدارج السالكين (٤٨/١)

?

جاء في وصف الفاتحة أنها مجمع العلوم والخيرات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شأنها: ( هي الكافية تكفي عن غيرها، ولا يكفي غيرها عنها ) .

?

قال التابعي الجليل الحسن البصري رحمه الله: ( فمن علم تفسيرها كان من علم تفسير جميع كتب الله المُنزّلة !! )

?

تجربة ابن القيم الاستشفاء بالفاتحة: 

وإنما حمل ابن القيم على هذه التأكيدات والأيمان على أن الفاتحة دواء لكل داء، داء القلوب والأبدان ..، وداء الشبهات والشهوات والبدع والخرافات ..، هو أنه مجرب، فقد جرب هذه السورة ورأي مفعولها بأم عينيه، ولا شك أن من رأى ليس كمن سمع، وإليك تجربته، يقول: “لقد مر بي وقت في مكة سقمت فيه، ولا أجد طبيباً ولا دواءً فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرا عجيبا، آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤها عليها مراراً ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع به غاية الانتفاع، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألَمّا فكان كثير منهم يبرأ سريعًا “.

(الجواب الكافي – ص:٢١)

?

“جرت العادة أن الشيء إذا اشتدت الحاجة إليه، وعظم شأنه، وعلا مقامه .. كثر تكراره وتداوله، وتعددت أسماؤه، ومن هذا ما ذكره العلماء لسورة الفاتحة من أسماء وصفات، حین سردوا لها نیفا وعشرين أسماء ما بين ألقاب وصفات مشهورة بين العلماء، ولا شك في ثبوت بعضها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن بعضها اجتهادية من وضع بعض الصحابة أو التابعين أو من استنباط العلماء.. ومن أشهرها: فاتحة الكتاب وأم الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم وسورة الحمد وسورة الصلاة.. “

?

سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن على الإطلاق، ولم يُنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، ولهذا السبب جُعلت فاتحةً لأفضل الكتب، عنواناً وديباجة لخاتمة الوحي، وفُرضت علينا قراءته بهذا العدد في اليوم والليلة.

?

إن في الفاتحة وسيلتين عظيمتين لايكاد يرد معهما الدعاء وهما:

١- التوسل بالحمد، والثناء على الله وتمجيده.

٢-التوسل إليه بعبوديته وتوحيده.

?

فهل – ونحن نكررها كل يوم سبع عشرة مرة – نقدرها حق التقدير، وننزلها منزلتها اللائقة بها؟! 

وهل تكرارها بهذا الكم يوميًا يستثيرنا بأن ننقب عن كنوزها ودفائنها ؟ 

?

والله العظيم قسمًا لا أحنث فيه لو تدبر المسلمون هذه السورة ( الفاتحة ) ووقفوا على أسرارها وكنوزها لرأيت حال أمتنا غير هذا الحال ؟!

د – إبراهيم الدويش

?

هل نرتلها ونقرؤها على مكث وتمهل ..، وخشوع وتذلل ..، أم نهذُّها هذَّ الشعر؟ ! وننثرها نثر الدّقَل؟ ! 

?

 وهل عندما نكرر هذه السورة – كما فرضها الله في أول النهار ووسطه ونهايته، وأول الليل ووسطه ونهايته – نستشعر مسیس حاجتنا لها عمليًا في حياتنا اليومية ؟!

?

نور و سرور:

في الفاتحة بشارة عظيمة، فمن قرأها بصدق و حضور قلب أعطاء الله ما جاء فيها من مطالب وأسئلة كما في الحديث: « ولن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته » . ( مسلم ) فهي كنز خص الله به هذه الأمة .

?☁️ السر الأول:

﴿بِسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ﴾ [الفاتحة: ١] 

– باسم الله نبدأ، و ( بسم الله ) تعني: استعانتك بحول الله وقوته في إنجاز أي عمل، متبرئاً من الحول والقوة..أي: { بسم الله } لا بحولي ولا بقوتي .. أفعلُ هذا الأمر … 

-فتذكر هذا المعنى وأثره كلما قرأت هذه الآية وكررتها، فهو وقود ودافع لكل خطوة في حياتك . 

– إذاً فالسر هنا بـ ( بسم الله ) فهي وقود ودافع لكل خطوة في حياتك ! 

-وكفى {بِسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ} شرفًا أنها كانت تتقدم رسائل النبي ﷺ وجميع أفعاله ومهماته لعلمه صلى الله عليه وسلم بعظيم أثرها عملا لا مجرد التلفظ بها .

– عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي ﷺ قال: يا محمد اشتكيت ؟ فقال: « نعم » قال: “باسم الله أرقيك؛ من گل شيء يؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ، الله يشفيك، باسم الله أرقيك. ” رواه مسلم

– وبـ( بسم الله ) يُذل الشيطان ويصغر حتى يكون أصغر وأهون من ذباب، عن أبي تميمة الهُجيمي عمن كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم  قال: گنت رديفه على حمار فعثر الحمار فقلت: تعس الشيطان، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنك إذا قلت: تعس الشيطان؛ تعاظم الشيطان في نفسه؛ وقال: صرعته بقوتي، فإذا قلت: بسم الله، تصاغرت إليه نفسه حتى يكون أصغر من ذُباب” رواه أحمد .

?☁️السر الثاني ( تمجيد وثناء)

﴿الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ﴾ [الفاتحة: ٢]

وفي الحديث القدسي المتقدم الذي رواه مسلم: ” فإذا قالَ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي

-الحمد والمجد والثناء لله الخالق وحده، فالتذلل والثناء لله يشعرك بالعزة، فكلما مرغت الجبين والأنف بالتراب سجودًا لمالك الملك ازداد السمو والرفعة في نفسك، فتشعر معه بلذة ونشوة العبودية الحقيقية لله، الزاد الحقيقي للحرية من ذل المخلوقين وطغيان شهوات الجسد ونزواته؛ فیسبح اللسان بالحمد والثناء لمن يستحق الثناء: فعن عبد الله بن مسعود بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: « ليس أحدٌ أحبَّ إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه .. » ( رواه البخاري) .

{ الحمدلله } ثناء من العلي القدير على نفسه، ويتضمن التنبيه والأمر لعباده أن يثنوا عليه ؛ لأنه يجب أن يحمده خلقه، وذلك لأنه وحده المستحق للحمد والثناء لكماله الذاتي، فهو أهل أن يحمد، وأن يركع له ويسجد . 

{ رب العالمين } أي: أن ربوبيته شاملة لجميع الخلائق والعوالم، والربُّ: هو المالكُ المتصرّفُ، و(العالمين) كل ما سوى الله فهو عالم .

– وفي حديث رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه قال: كنا يومًا نُصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: « سمع الله لمن حمده » قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم ؟ قال: أنا، قال: « رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول » ( رواه البخاري)  .

?☁️السر الثالث

 ﴿الرَّحمنِ الرَّحيمِ﴾ [الفاتحة: ٣]

وفي الحديث القدسي المتقدم الذي رواه مسلم: ” وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي“.

{الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} لا غنى لأحد عنه طرفة عين، فالزمن صعب، الدنيا دار هموم وغموم .. وبلایا ورزایا .

– معنى { الرحمن الرحيم } له أثر عميق في أي نفس، فكيف وأنت كمسلم تكررها عشرات المرات في يومك، فتشعر أن ظلال الرحمة يحوطك من كل اتجاه، وتكرار الآية يرسخ في عقلك الباطن أنك كبشر تتعامل مع ملك رحمن رحيم .

– وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ قال: « إن لله مائة رحمةٍ، أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس والبهائم والهوام؛ فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تسعاً وتسعين رحمةً يرحم بها عبادهُ يوم القيامة » ( رواه البخاري ) 

– س/ ما الفرق بين { الرحمن } و { الرحيم } ؟

{ الرحمن والرحيم } اسمان دالّان على أنه -تعالى- ذو الرّحمةِ الواسعةِ العظيمة، التي وسعت كُلَّ شيءٍ، وعمّت كُلَّ حيَّ .

و { الرحمن } متضمن لصفات الإحسان والجود والبر، أي: يرحمُ جميعَ الخلق، المؤمنين والكافرين في الدنيا، وذلك بتیسیر أمور حياتهم ومعيشتهم، والإنعام عليهم بنعمة العقل وغيرها من نعم الدنيا، بل ومن أعظم رحمته بجميع خلقه أن أقام عليهم الحُجّة وأعذرهم بالرسل: { وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا } [الإسراء: ١٥] .

و { الرحمن } اسم خاص بالله – تعالى – لا يجوز تسمية غيره به، ومثله: ( الله )، و ( الخالقُ )، و ( الرّازِقُ ) .. ونحوها

و { الرحيم } خاصٌ بالمؤمنين، فيرحمهم في الدنيا والآخرة ؛ { وَكانَ بِالمُؤمِنينَ رَحيمًا} [الأحزاب: ٤٣]

?معنی آخر جمیل:

ومعنى آخر جميل من أسرار هذه الآية: 

فإن کنت – أيها المصلي – تثني على الله وتطلب منه الرحمة بهذا الإلحاح والتكرار اليومي، فسيكون لها أثر في سلوكياتك وتعاملك، فطريق الرحمة وبابها في أن ترحم أنت أيضا، فاتّصف بالرحمة مع الناس، واعمل بها، وكن رحيمًا تُرحم .

?☁️السر الرابع ( مَلِكٌ ومحاسبة )

﴿مالِكِ يَومِ الدّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] 

وفي الحديث القدسي المتقدم الذي رواه مسلم: ” وإذا قالَ: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ}، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي”.

(مَلِكٌ ومحاسبة ) فالله – سبحانه – هو المالك المتصرف، الخالق المدبر لهذا الكون، يرجع إليه الأمر كله، وسيجزي الجميع بأعمالهم، ففي الآية – تمجید لمالك يوم الدين، ووعيد لنصب الموازين ؛ لتوزن فيها المثاقيل عدلاً وإنصافاً، وإحقاقاً للحق، فيقرع جرس الإنذار بتكرار الفاتحة ( ۱۷ للفرائض ) عند كل تعامل مع الآخرين أن: 

تنبه …! 

واحذر .. ! 

ولا تغفل ۔۔ !

– فالنفس المؤمنة ستجد للآية أثراً بليغاً وعميقاً لكل تصرفاتها في شؤون الحياة كلها بيعاً وشراءً، سلوكاً ومعاملةً، حكماً وإنصافاً مع كل أحدٍ ؛ مسلماً كان أو كافراً، كبيراً أو صغيراً، قويّاً أو ضعيفاً، أبيضَ أو أسود، سيداً أو خادماً، رجلاً أو امرأةً ..، لأنك تعلم يقيناً أن الموعد يوم الدين، أي: يوم يُدان الناس بعضهم من بعض .

-لو أن كل مسلم استشعر هذا المعنى فقط من الفاتحة، وتكرارها اليومي لم نشاهد هذا السيل الجارف في عالم الإنسان من الظلم والطغيان والقتل وبخس الحقوق والغش والتحايل والكذب والخيانة … مما ضاقت به الأرض رغم فضاءاتها الواسعة ! ! 

– أيها المصلي .. وأنت تردد: ﴿مالِكِ يَومِ الدّينِ﴾، كل هذا التكرار، هل يتبادر لفكرك أن يوم الدين عزاءُ المظلومين والمحرومين، يومَ تجتمعُ الخصومُ، كما قيلَ: 

أما والله إنّ الظـلم لـؤم

‏ومازال المسيء هو الظلوم

‏إلى ديّان يوم الدين نمضي

‏وعند الله تجـتمع الخصوم

– أبي العتاهية –

هل سيجرؤ مسلم يردد كثيراً هذه الآية يوميًا وهو يفهم مرادها والمقصود من سياقها أن يبخس حق أحد، أو أن يظلم أحدًا، أو يعتدي على عرض أحد ؟! 

– عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ) رواه مسلم.

والمالك: هو من اتصف بصفة المُلكِ التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرفُ بمماليكِه بجميع أنواع التصرفات . 

– و { يوم الدين } هو: يوم القيامة، يوم يُدانُ الناسُ فيه بأعمالهم خيرها وشرها.

?☁️السر الخامس ( عبادة واستعانة )

﴿إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ﴾ [الفاتحة: ٥]

وفي الحديث القدسي المتقدم الذي رواه مسلم: “فإذا قالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ”.

آية اختُصرت فيها كل المعاني لجميع كتب الله المنزلة ..

 فعن الحسن البصري قال: « أنزل الله – عز وجل – مائة وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصلثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسیرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، وعلم الفاتحة في قوله ﴿إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ﴾ [الفاتحة: ٥]

– و تقديم {إِيّاكَ نَعبُدُ}  على { وَإِيّاكَ نَستَعينُ} لشرفه ؛ لأن الأول غاية، والثاني وسيلة إليها.

– وعلى هاتين الكلمتين مدار العبودية والتوحيد، وإفراد الله بالعبادة وهو المقصود الأعظم في هذه السورة، ومن أجله سيقت الفاتحة، بل القرآن كله، ومن أجله خُلقت الجن والإنس، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وقامت سوق الجنة والنار، واستُلت سيوف الجهاد، قال تعالى: ﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]

– وفي هذه الآيةِ رغمَ قِصَرِها أسرارٌ غريبةٌ، ومعانٍ عجيبةٌ، وهي تتضمّن معرفة الطريق الموصلة إليه – سبحانه – وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبّه ويرضاه، واستعانته على عبادته .

– فإذا كانت الفاتحة أساس القرآن ( كما قال ابن عباس ) فآية { إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ} أساس الفاتحة ؛ لأنها تشتمل على ملخص رسالة الحبيب صلى الله عليه وسلم التي جاء القرآن لبيانها وشرحها .

– يا الله ! 

سرٌ عظیم، وكنز ثمين، يغيب عن الكثير، فاستحضر هذه المعاني كلما رددت:{ إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ}، وتأمّل جمال المعنی وروعة السياق القرآني في الآية، فإنه لَمَّا لم يكن للعبد قدرة على العبادة التي هي الغاية من خلقه بدون إعانة الله له أردفه بقوله: { وَإِيّاكَ نَستَعينُ } فإنك لن تستطيع القيام بالعبادة كما ينبغي إلا بعون من الله وتوفيقه .

إذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يجني عليه اجتهاده 

– فتكرارك: { إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ

” أي: لا نعبدُ إلا إيّاك حُباً وخوفاً ورجاءً وطاعةً وتعظيمًا، ولا نستعينُ إلا بِكَ توكُّلاً وثقةً واعتماداً “.

– فأين القلوبُ التي تعلَّقَت بغيرِ الله من { إِيّاكَ نَعبُدُ } ؟!   

– أولستُم تردّدُونَها في كُلَّ ركعةٍ من صلاتِكم ؟!    

أين أثَرُها وحقيقتُها ؟! 

– إنك تردد: { إِيّاكَ نَعبُدُ } كل يوم عشرات المرات ..، فالله خلقَك لتكونَ عزيزًا، فأعجب ممن يأبى إلا أن يكونَ ذليلاً لجمادات أو لمخلوقين ! 

– متى تتذوق أرواح هؤلاء معين { إِيّاكَ نَعبُدُ } ؛ ليتحرروا من عبادةِ العبادِ والجماد والفسادِ، إلى عبادةِ ربَّ العبادِ، ومن ضيقِ الدُّنيا إلى سعةِ الآخرةِ لتعيش جنّة الدنيا وسعادتها . 

السعادة في العبادة: 

قال شيخُ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: ( من أرادَ السعادةَ الأبديّة، فليلزم عَتَبَة العبوديّة ) فطريق السعادة هو طريق العبادة .

– 

–  { وَإِيّاكَ نَستَعينُ }، والاستعانة هنا على إطلاقها، فنستعين بك يا الله على كل شيء، وفي كل شيء، وإن كان أعظم مقاصدها هنا العون على العبادة، فنحن یا ربنا نريد أن نطيعك، ونعبدك ونتقرب إليك، فإن لم تُعِنّا على ذلك فقد خسرنا، فلا حولَ ولا قوةَ لنا إلا بك، نحن الضعفاءُ الفقراء إليك

– ولذلك كان أنفع الدعاء طلب العونِ على مرضاته، عن مُعاذ بن جبل قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « إني لأحبك يا معاذ، فقلت: وأنا أحبك يا رسول الله، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: « فلا تدع أن تقول في گل صلاةٍ: ربَّ أعني على ذكركَ وشُكركَ وحُسنِ عبادتك » رواه النسائي .

– عجباً لمن يتعلّقُ بالتمائم والطلاسمِ ويستعين بالشياطين !! كيف يغفل عن  { وَإِيّاكَ نَستَعينُ }، فـ ” إنّ الرُّقى والتمائم والتّوَلَةَ شركٌ “رواه أحمد.

– و ” من تعلّق شيئاً وُكِلَ إليه ” رواه أحمد .

أيها المصلي وأنت تُردد: { وَإِيّاكَ نَستَعينُ }  هل تشعر أنك تطلب العون حقًا مِمَن بيده ملكوتُ السّماواتِ والأرض ؟

أيها المصلي وأنت تُردد: { وَإِيّاكَ نَستَعينُ } هل تشعر أنك صاحبُ توحيدٍ وشجاعة، وأنك قويّ القلبِ عزيز النّفس؟

 فإن: « المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خیر، احرص على ما ينفعُك، واستَعِن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شي قلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان » ( أخرجه مسلم ) .

أيها المصلي، إنك تردد: { وَإِيّاكَ نَستَعينُ } سبع عشرة مرة في فرائضك اليومية، فهل تعلم كيف تكون حقيقة الاستعانة ؟! ..

 تأمل هذا المثال:

أمٌّ ترمي ولدها، فِلذَةَ كبدِها في البحر، تتقاذَفُه الأمواجُ !! 

أيُطاقُ هذا ؟!! 

﴿فَإِذا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخافي وَلا تَحزَني﴾ [القصص:٧]، ففعَلت وفعلُها عينُ الثّقَةِ بالله ! 

?☁️السر السادس ( الهداية ) 

﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ﴾ [الفاتحة: ٦]

إذا كثرت الأقاويل، واشتد الخلاف، وتنازعت الملل والفرق والأحزاب، وانتشرت البدع والخرافات، ليس لك إلا أن تردد:

 ﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ﴾

إذا عصفت بالناس الشهواتُ واللذّاتُ، وضلّت العقول والأفهام، وشطّت الآراء والأقلامُ، ليس لك إلا أن تردد:

﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ﴾. 

إذا اشتدت المِحنُ، وكثُرت الفتنُ ونزلت الهمومُ والغمومُ، وتتبّع الناس الأبراج والنجوم، ليس لك إلا أن تردد: 

﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ﴾

_يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: « فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته وفلاحه ؛ بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، فإذا انقطع رزقه مات، والموت لا بد منه، فإذا كان من أهل الهدی به كان سعيدا قبل الموت وبعده، وكان الموت موصلا إلى السعادة الأبدية، وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيدا، وكان القتل من تمام النعمة، فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق ؛ بل لا نسبة بينهما .. » 

_ولنزداد قناعة بأهمية هذا السر لنسأل أنفسنا: 

كيف حالنا بدون الهداية ؟! 

كيف حال الأمة بدون الصراط المستقيم ؟! 

فالهداية: أسُّ الفضائل، ولِجامُ الرّذائل .

بالهداية: تجد النفوس حلاوتها وسعادتها، وتجد القلوب قوتها وسرَّ خلقِها وحريتها .

 باختصارٍ: الهداية هي الحياةُ الطيّبة .

 وهي مطلبٌ للجميع، فالكل يبذلُ كلّ غالٍ ونفيسٍ من أجلها، ولهذا كان هذا السر هو سر الأسرار هنا .

إذاً لتفوز بثمرة هذا الكنز العظيم في الفاتحة كرر السؤال وأنت على قناعة ودراية بالمقصود ؛ فقد جاء في الحديث القدسي المتقدم قوله تعالى: فإذا قال:  { اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ – صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ }

قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » .

 فما أسعدك يوم وعدك بإجابة سؤلك ! 

وفي الحديث القدسي الطويل الذي رواه أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن الله – تبارك وتعالى -: ” يا عبادي كلكم ضال إلا من هدَيتُهُ ؛ فاستهدونِي أهدِكُم ” .

( جزء من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، رواه مسلم )

وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهن في الوتر: « اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربّنا وتعاليت » ( أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والترمذي ) .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ( ولهذا كان أنفع الدعاء، وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة:   { اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ – صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ }

هل تعلم أن بقدر انضباطك وسيرك في الطريق الصحيح بالدنيا يكون سيرك على صراط العبور المنصوب على متن جهنم في الآخرة

يقول ابن القيم – رحمه الله -: ” من هُديَ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هُديَ هناك إلى الصراط المستقيم، الموصلِ إلى جنّته ودار ثوابه ؛ وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوتُ قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم .. “

المراد بـ { الصِّراطَ المُستَقيمَ } هو دين الإسلام .

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه بالليل: ( اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم ) “رواه مسلم”. 

لمّا كانت سُبل الزيغ والانحراف المعاصر ليس لها حصر !

الشُبهات والشهوات تتلون وتتشكل ! ولها مداخل وتلبيسات ..

وسُبل وحيّل لا يسلم منها أحد إلا بالاعتصام والإلحاح بالدعاء، دعاء كدعاء الغريق .. فحريّ بالمُسلم أن يلهج اللسان ومن قلبٍ صادق متلهف غير غافلٍ لاهٍ، بطلب متكرر للهداية ولزوم الصراط المُستقيم. ” 

( بتصرفٍ يسيرٍ )

فاللهم لولاك ما اهتدينا، فثبتنا على الصراط المستقيم إلى أن نلقاك .

☘️السر السابع ( الانتماء )

﴿صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ﴾ [الفاتحة: ٧]

_ والسرَ في الآية تشوقك وتطلعك بل وأمنيتك للانضمام لهذا الفريق الفائز بهذا النعيم .. كلما كررت قوله: { صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم }

_ فكيف هو تشوقك وما مشاعرك وأنت تسأل الله كل يوم وليلة سبع عشرة مرة في الفرائض أن يُلحقك مع هؤلاء ..؟؟!!

وما أعظمه من أثر بليغ على الهمة وما أعمقه في النفس المتدبرة الواعية

خاصة إذا ذكرت أنه جاء في الحديث القدسي المتقدم: « فإذا قال: ( اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ – صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ ) قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » (رواه مسلم)

أي: أن الله – سبحانه – وَعَدَ المصلي أنه يحقق سؤاله، ويلبي طلبه، وهذا من كرم وفضل من الله، وبشارة عظيمة للعبد لا يعدلها أي بشارة.

ثم يشتد الشوق ويبلغ التلهف منتهاه إذا علمت أنك لا تفوز فقط بالانضمام لهؤلاء الكبار، بل وتنجو من الفريق الآخر الذي تنكر إما جهلاً وإما تكبراً وعناداً بأن الله واحد أحد، وأنه لا إله غيره، وأنه المستحق وحده – سبحانه – للعبادة

فهل أنت – أيها المصلي – حين تردد قوله: ( صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ ) تُدرك أنه بيان سماوي يومي يؤكد معارج السُعداء، ومنازل الأشقياء، ويرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل، وعلى أهل البدع والضلال من هذه الأمة . 

_ قال أبو الليث السمرقندي: ” وقد أجمع المفسرون أن ( المَغضوبِ عَلَيهِم ) أراد به اليهود، و (الضّالّينَ ) أراد به النصارى ” . ( بحر العلوم للسمرقندي (٤٤/١).

قد قسمت الآية الناس إلى ثلاثة أقسام:

١- قسم استقاموا فهدوا إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، وهم الذين جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح .

 ٢- وقسم غضب الله عليهم ؛ لأنهم هُدوا إلى الحق عِلمًا، ولكنهم لم يعملوا بمقتضی علمهم ؛ فجحدوا واستكبروا، وهم اليهود ومن سلك مسلكهم .

٣- وقسم ثالث عملوا وعبدوا الله ولكن عن جهل ؛ فضلوا عن سواء السبيل، وهم الضالون من النصارى ومن شابههم .

 ( للاستزادة: مدارج السالكين، لابن القيم (٧٢/١ومابعدها) . وأحكام من القرآن الكريم (الفاتحة والبقرة) لمحمد بن صالح العثيمين، جمع عبدالكريم بن صالح المقرن (ص:٣٦).

وأما قولنا: « آمين »: 

فليست من الفاتحة، ولكنها تأمين على الدعاء، ومعناها: اللهم استجب، فالواجب تعليم الجاهل لئلا يظن أنها من كلام الله، وتفطن أن في التأمين بعد الفاتحة دليلا على أهمية الدعاء الوارد فيها، فاكتسب التأمين أهميته من أهمية الدعاء، فقد جاء في فضل التأمين قول الرسول ﷺ: « إذا قال الإمام:{ غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ} فقولوا: آمين ؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» ( رواه البخاري) . 

وفي لفظ مسلم: « إذا أمَّن الإمام فأمَّنوا، فإنه من وافق تأمینه تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه » ( رواه مسلم ) .

المصدر:

?تِكرار الفَاتِحة القُوة الكامِنة / د . إبراهيم عبدالله الدّويش.

تمت بحمدالله

 تحميل الكتيب

pdf: https://bit.ly/3pwwz8p

الصور عبر تمبلر

#أسرار_سورة_الفاتحة

من منتجاتنا